فصل: فصل: في الاستماع والإنصات وما يتعلق به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الاستماع والإنصات وما يتعلق به:

1478- القول في ذلك ينقسم إلى ما يتعلق بالواجب، وإلى ما يتعلق بالآداب، فلتقع البداية بالأهم، وهو ما يجب، ويتحتم، فنقول:
نقل الأئمة قولين في أنه هل يجب على من حضر الصمتُ والإنصاتُ، وهل يحرم عليه الكلام؟ فالذي نص عليه الشافعي في القديم أنه يجب الإنصاتُ، وإدامةُ الصمت على من حضر، وتمكن من الإصغاء والاستماع، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والمنصوص عليه في الجديد أنه لا يحرم الكلام على من شهد، ولا يتعين الصمت.
1479- فمن قال: يجب، استدل بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقد قال المفسرون: المراد بالقرآن الخطبة، وإنما سميت قرآناً لاشتمالها على قراءة القرآن. ومن قال: لا يجب الصمتُ، استدل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في أثناء خطبته بما ليس من الخطبة، فإذا كان لا يحرم على الخطيب أن يتكلم بما ليس من الخطبة، لم يحرم على المستمع أن يتكلم أيضاً، وقد روي: "أنه دخل داخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال عليه السلام: «ماذا أعددت لها» فقال: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» ولم يرد على من كلمه، ولو كان تكلُّمُ من حضر حراماً، لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نطرد عليه ما ذكره الأئمة في التفريع، ونسوقه أحسن سياق، ثم نذكر غوائلَ يقع التعرض لها، وليستوف الناظر تمام الفصل؛ فإنّ كشف مبادئه في استتمامه.
1480- قال شيخي: إذا أوجبنا الإنصات والإكباب على الاستماع، فلو دخل داخلٌ وسلم، لم يجب على الحاضرين ردُّ سلامه، بل لا يجوز لهم ردُّ سلامه، فإنا نفرع على إيجاب الإنصات وقطع الكلام، فإن قيل: ردّ السلام من فروض الكفايات.
قلنا: ذاك في حق من لم يضيع السلام، فوضَعه في غير موضعه، ومن سلم على رجل وهو في أثناء حاجة يقضيها، لم يستحق ردَّ السلام، وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل، ففيه تفصيلُ فرائض الكفايات، وما يتعلق بها، فليس إذن للداخل أن يسلّم، وإذا سلم، لم يستحق جواباً، ولا يجوز للحاضرين أن يردّوا عليه، على القول الذي عليه نفرعّ.
1481- ولو عطس عاطس، فهل يجوز تشميته؟ فعلى وجهين، أحدهما- لا يجوز قياساً على رد السلام، والثاني: يجوز؛ فإنه لا اختيار للعاطس، فهو معذور، فحقه أن يُقضَى حقه، ومن أدب الدين أن يُشمَّت المسلمُ إذا عطس، فأما رد السلام، فلا؛ لأن المسلم ضيع سلام نفسه، وكان مختاراً فيه.
فإن جوزنا تشميتَ العاطس، فهل يُستحبُّ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: بلى، رعايةً لحقه.
والثاني: لا؛ فإن الإنصات أهم منه؛ إذ هو واجب، والتشميت لا يجب قط.
فهذا إذا فرعنا على وجوب الصمت، فأما إذا لم نحرمه تفريعاً على الجديد، فيجب عليه تشميتُ العاطس.
1482- وهل يستحب ردُّ السلام، فعلى وجهين، ولا يجب رد السلام، وإن لم نحرمه، لتقصير المسلم لما ذكرناه من وضعه السلام في غير موضعه، وقد ذكرنا أن من سلم على إنسان وهو في قضاء حاجة، لم يلزمه رد سلامه، وإن كان لا يحرم عليه، وقد روي: "أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بعد الفراغ وتيمم، ثم ردّ جوابه".
1483- وقال شيخنا أبو بكر الصيدلاني: اختلاف القول في الإنصات يستند إلى ما تقدم من الاختلاف في أن حالة الخطبة كحالة الاشتغال بالصلاة أم لا؟ وعلى هذا يبتني الخلاف في أن الطهارة هل تشترط في الخطبة أم لا؟ هذا كلامه. فإن شرطنا الطهارة، حرّمنا الكلام، وإن لم نشترطها، لم نحرم الكلام.
1484- وكان شيخي يقول: إن أوجبنا الإنصات على من يبلغه صوتُ الخطيب، فهل يجب على من لا يبلغه صوته؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب، ووجهه ظاهر.
والثاني: يجب؛ فإنه لو تلكم من بُعد، لارتفع اللغط، بحيث يمنع الحاضرين من السماع.
1485- وكان شيخي يقول: في تحريم الكلام في أثناء الخطبة على الخطيب قولان، كالقولين في كلام المستمع، والشافعي في الجديد لما أباح الكلام على الحاضر، احتج بتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته. ولو لم يكن ذلك في محل النزاع، لما احتج به رضي الله عنه.
ثم كان يقول: لناصر القول القديم أن يجيب عنه، ويقول: تكلُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو شرعٌ، وبيانُ حكم؛ فإنه قال لسُلَيك الغطفاني: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين"، والخاطب يجوز له أن يضمّن خطبتَه بيانَ حكمٍ، وتعليمَ الناس أمراً شرعياً، سيما إذا كان متعلّقاً بما يليق بالحال، كقوله عليه السلام لسليك: «لا تجلس حتى تصلي ركعتين» ويجوز أن يكون كلامه مع قتلة ابن أبي الحُقيق متعلِّقاً بأمرٍ مهم في الجهاد، وهو من أهم قواعد الشرع، وإنما القولان في تحريم كلامٍ لا يتعلق ببيان الشرع.
ثم كان شيخي يقول: لاخلاف أن كلام الخطيب في أثناء الخطبة لا يبطل الخطبة، ولا يقطعها إذا قلّ. وإن طال وكثر، فهو يتعلق بترك الموالاة في الخطبة، وفيه القولان المشهوران.
فهذا منتهى كلامه.
1486- والآن قد حان أن ننبه على حقيقة المسألة، فنقول: كان شيخي وغيره من الخائضين في هذا الفصل يرددون القول في أنه هل يجب الاستماع؟ ويزعمون أن في إباحة الكلام، أو في رفع الحرج فيه إسقاطُ إيجاب الاستماع والإصغاء.
وأنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع، وقد بنى إيجاب الخطبتين، والقعدةَ بينهما على ذلك، وفهم أن الغرض من الخطبة تجديدُ العهد في كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة؟ ولو جاز ذلك، لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنىً وفائدة، ولوجب أن يسوغ أن يحضروا ويناموا، والإمام رافع عقيرته، ويجب على مساق هذا ألا يجب على الخاطب رفعُ صوته بالخطبة. ولا يعتقد هذا ذو بصيرة في المذهب، وقد اشتد نكير أئمتنا على أصحاب أبي حنيفة لما قالوا: ينعقد النكاح بحضور شاهدين لا يفهمان عقدَ النكاح، وقالوا: من لم يفهم من تخصيص النكاح بحضور الشهود أن الغرض أن يتحملوه ويفهموه، فقد بعدوا، وتناهَوْا في العناد والجحد، فيجب من ذلك القطعُ بأنه يجب حضورُ أربعين من أهل الكمال، ويجب أن يُصغوا، ويجب على الخاطب أن يُسمعهم أركان الخطبة، ولو حضر من حضر، وارتفع منهم اللغط على وجه لا يتأتى معه السماع، فهذا قطعاً بمثابة ما لو لم يحضروا، أو انفضُّوا وانصرفوا، وإذا كان كذلك، فيجب تنزيلُ القولين وتقدير تفريعهما على وجه، فنقول: إذا اجتمع في بلدة من أهل الكمال مائة ألفٍ مثلاً، فيجب عليهم إقامةُ الجمعة، ولكن لا يجب عليهم الاستماع؛ فإنَّ ذلك غيرُ ممكن، وإقامة الجمعة من جميعهم ممكن، فيجب الاستماع من أربعين منهم لا بأعيانهم، فنقول: لو شهد أربعون من أهل الكمال، وبعُدَ الآخرون، سقط الفرض في الاستماع عن الكافة، ولو حضر جمع زائدون على الأربعين، ففي وجوب الإنصات على آحاد من حضر، وأمكن الاستماع منه القولان.
ووجه خروجهما أنا لو جوّزنا لكل واحد أن يتكلم، تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيرُه، لجرّ ذلك جواز التكلّم، من كل واحد، وهذا يُفضي إلى أن يتكلم جميعُهم، فَيُفْضِي ذلك إلى سقوط الاستماع رأساً، فهذا يضاهي ما لو تحمل جماعة شهادةً، وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن الإقامة، تعويلاً على أن الغرض يتحصل بغيره خلاف معروف في الشهادات، ولكن الأظهر في الشهادة أن المدعوّ من الشهود يتعين عليه الإقامة.
1487- والمنصوص عليه في الجديد أن الإنصات لا يجب، وميل أئمة المذهب إلى الجديد في مجال الخلاف، ولعل الفارق فيه أن المدعوَّ من الشهود قد تعلّق به طلبُ ذي الحق على اليقين، وآحاد من يحضر المقصورة لا يتخصص بمطالبة.
وعندي أن هذا يضاهي ما لو قال ذو الحق للشهود وهم مائة: لا تغيبوا، فحاجتي ماسةٌ إلى إقامة الشهادة. فلو غاب جمعٌ منهم، وكان الحق يستقل بمن بقي، فيظهر أن الذين غابوا لا يَحْرَجون.
وليس تخلو المسألة عن احتمال في ذلك.
ثم إذا قيل: التكلم من واحد لا يمنعه من السماع؟ قيل: نعم، ولكن رفع الحرج فيه تسلّط غيره على مثل ما جاء به، وإذا فرض ذلك عن جميعهم، صار هينمة عظيمة حاجزة من السماع، فكان تحريم ذلك في القديم في حكم سد بابٍ يُفضي-لو فتح- إلى رفع الاستماع رأساً.
ثم فيمن بعد، ولا يَسمعُ خلافٌ؛ من جهة أنه قد يجرّ لغطاً مانعاً للحاضرين من السّماع، فهذا منّا تنبيهٌ على سرّ المسألة في النفي والإثبات.
1488- والآن نرتّب المذهبَ بعد هذا، فنقول: لو تكلم جميعُ الحاضرين على وجهٍ انقطعوا به عن السماع رأساً، حَرِجوا قطعاً، بل حَرج الكافة حَرَجَهم بترك فرض الكفاية، وتتعطل الخطبة بسقوط فائدتها من السماع، وإذا تعطلت، فلا جمعة، وينزل هذا منزلة ما لو انفضوا من عند آخرهم.
وإن لم ينته الأمر إلى هذا، وسمع الخطبةَ أربعون، صحت الجمعةُ.
ثم في تحريم إقدام آحاد الحاضرين على الكلام القولان.
ووجه صحة الجديد أن ذلك في حكم العرف لا يؤدي إلى لغطٍ يُسقط سماعَ أربعين، وتصوير أداء ذلك إلى هذا بعيد، وكذلك انتهاء الهمس إلى هينمة حاجزة بعيد، فليفهم الفاهم ذلك.
وفي تحريم التكلم في تشميت العاطس خلافٌ؛ لأنه ليس مما يتعلق باختيار، فلا يؤدي تجويزُه إلى مانع من السماع؛ إذ هو يقع نادراً من غير اختيار، ثم في التعبد تردُّد بعيد كما رتبه الأئمة.
وأما الخاطب، فيجب عليه رفعُ الصوت قطعاً، وإن لم نوجب الإنصات، فإنا مع جواز التكلّم أوجبنا أن يحصل سماعُ أربعين.
1489- وأما كلام الخطيب فقد حكى شيخي فيه قولين، وهذا غلط عظيم، مشعر بالذهول عن حقيقة المسألة؛ فإن الإمام إذا تكلم، فليس متمادياً في تلك اللحظة على الخطبة، فكان كما لو سكت لحظة، فأما إذا كان مارّاً في خطبته، والحاضر يتكلم، فهو في وقت جريان الخطبة مشتغل بما قد يؤدي إلى قطع السماع، فكيف يتشابهان؟ أم كيف يتلقى الفطنُ كلامَ الخطيب من كلام المستمع؟ ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسائل في أثناء الخطبة قتلةَ ابنِ أبي الحُقيق عن كيفيةِ القتل. وشرْحِ ما جرى لهم، وحَمْلُ هذا على شرح مسألةٍ في الشرع تكلف بعيد، لا سبيل إلى قبوله أصلاً.
ثم الصيدلاني خرج اشتراط السكوت على أن الخطبة هل تنزل منزلة الصلاة أم لا؟ وعليه خرج اشتراط الطهارة، وهذا في نهاية البعد؛ فإنّ أخْذ تحريم الكلام من غير الجهة التي ذكرناها، وهي توقع إفضاء ذلك إلى اللغط خروج عن المسألة ووضعها.
ثم من عجيب الأمر أن الصيدلاني وغيرَه من المحققين لم يمنعوا الخطيبَ من الكلام في الخطبة وإن أوردوا الخلافَ في أنه هل تشترط طهارةُ الخطيب.
ثم القولان في تحريم الكلام على المستمع مشهوران، فيبعد عندي جداً أن نوجب على المستمع استصحابه الطهارة في استماعه، فإذاً لا تلتقى الطهارةُ وأمرُ الكلام.
فهذا منتهى المرام في هذا الفصل.
وقد نجز به المقصود الأظهر من ذلك.
1490- ثم نذكر بعد هذا أموراً تتعلق بالآداب في الباب، فنقول: أولاً- إذا أخذ المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب، لم يحرم الكلام، ولكن لا ينبغي أن يبتدىء أحد صلاةً نافلةً بعد افتتاح المؤذِّن أذانَ الخطبة؛ فإن الإمام سيخطب على قُرب وقد تتبتّر عليه الصلاة، أو يقع ابتداء الخطبة في بقيةٍ منها.
ولو دخل داخل والإمام في أثناء الخطبة، فمذهب الشافعي أن الداخل يُصلِّي ركعتين خفيفتين، ثم يجلس. وخالف أبو حنيفة فيه، ومعتمد المذهب ما روى جابر: أن سُليكاً الغطفاني دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين وقال: "من دخل والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين".
1491- ثم إذا فرغ الإمام من الخطبتين، فلا يحرم الكلام ما بين ذلك إلى عقد الصلاة وفاقاً.
وقال علماؤنا: كما لا يحرم الكلام لا تحرم الصلاة في هذا الوقت، ومعتمد المذهب ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوم الجمعة من على المنبر، فيقوم الرجل معه، ويكلّمه في الحاجة إلى أن ينتهي إلى مصلاه".
1492- ومما يتعلق ببقية الفصل أن الشافعي نص فيما نقله صاحب التقريب والصيدلاني على أن من دخل والإمام يخطب، فيجوز له أن يتكلم مادام يمشي ويتخير لنفسه مكاناً، وإنما القولان فيه إذا قعد، ولم أر فيه خلافاً وهو ظاهر، وإن كان الاحتمال متطرّقاً إليه، وظهوره من حيث إنا نأمره أن يصلي ركعتين، وسيذكر الله فيهما، ويقرأ، وذلك يناقض الإنصات، فإذا فرغ من ذلك كله، فإذ ذاك يختلف القول في وجوب الإنصات، فهذا نهاية المرام في ذلك.
فصل:
1493- أهل بغداد لا يقتصرون على عقد جمعة واحدة، والطرق متفقة على جواز الزيادة على جمعة واحدة ببغداد، وتردد الأئمةُ في تعليل ذلك، فمنهم من قال: السبب المجوّز لذلك تخلل النهر العظيم بين شقّيه، فانقطع حكم أحد الشقين عن الثاني. ومنهم من قال: علة جواز ذلك ببغداد أنها كانت قرى متفرقة، واتصلت العمارات، وصارت كبلدة واحدة، وكانت الجمعة تقام في كل قرية، فاستمرت تلك العادة بعد اتصال البنيان. وعلل ابن سُرَيْج بكثرة الناس، وأن البقعة الواحدة لا تحتملهم ببغداد.
ثم من قال: السبب المجوز تخلل النهر، فيرتب على هذا ألا يقام ببغداد إلا جمعتان شرقية وغربية، وينبني عليه أن كل بلدة يتوسط عماراتها نهر لا يُخيضُ ولا يُخاض إلا بالسفن، أو السباحة، فحكمها حكم بغداد.
ومن قال: إنما يجوز ذلك لأهل بغداد لكثرة الناس- وهو تخريج ابن سُرَيْج، فعلى هذا لو ازدحم أهل بلدة، وكثروا، وكان يضيق عنهم موضع، فيجوز تعديد الجمعة على حسب الحاجة إذن.
ومن قال: سبب تجويز تعدد الجمعة في بغداد أنها كانت قرى، فاتصلت، فلا يجوز ذلك إلا في بلدة تتفق كذلك.
ثم تردد صاحب التقريب في هذا، فقال: القرى إذا اجتمعت وصارت بلدة، كما فُرض في بغداد، وصارت القرى كأنها حارات و محالّ، فيحتمل أن تثبت على ما هي عليه من حكم التفرق، كما ذكره الأصحاب، ثم قال: على حسب هذا، لو تجاوز هامّ بالسفر قريةً من تلك القرى إلى أخرى، والعمارة متصلة، فينبغي أن يترخص برخص المسافرين؛ فإنه لم يثبت لها حكم الاتحاد. قال: ويحتمل أن يقال: إذا اجتمعت، زال حكم التفرق منها. وصارت البقعة كأنها بنيت على الاتحاد إذ بنيت، فعلى هذا يمتنع إقامة الجمع في تلك البقاع التي كانت قرى بعد التواصل، كما يمتنع في البلدة التي لم تعهد إلاّ على الاتحاد.
فهذا تفصيل القول في بغداد.
1494- فأما ما عداها من البلاد إذا لم يوجد فيها ما يسوّغ الزيادة على جمعة واحدة على التفاصيل المقدمة المستفادة من بغدادَ وعِلَلِها، فلابد من الاقتصار على جمعة واحدة، وهو مذهب معظم الأئمة.
وأجاز أبو يوسف عقدَ جمعتين، ولم يجوز الثالثة.
والأصل المعتمد فيه أن الجمعة شُرعت لجَمْع الجماعات، والغرض منها إقامة هذا الشعار في اجتماع الجماعات في كل أسبوع مرة، وإنما يتأتى هذا الغرض بإيجاب الاقتصار على جمعة واحدة. ولو ساغت الزيادة على واحدة، لم ينحصر القول بعد ذلك، وآل مآل الكلام إلى تنزيل هذه الصلاة منزلة سائر الصلوات، فإذاً لا نزيد على واحدة.
1495- ولو فرضت جمعتان حيث نمنع، فإذا تقدمت إحداهما وسبقت، فهي الصحيحة، والثانية ليست جمعة، وإذا تقدمت واحدة، وتعيّنت-وقد اختلف أئمتنا فيما يقع به السبق والتقدم، فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار بعقد الصلاة- فكل صلاة تقدم عقدُها فهي الجمعة، وهذا هو الأصح.
ومنهم من قال: الاعتبار بالخوض في الخطبة، فإذا تقدّم ذلك في أحد الجامعين، فهم المقيمون للجمعة، وإن تأخر عقد الصلاة منهم، وهذا له التفات على أن الخطبتين بمثابة ركعتين.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً: أن الاعتبار بالتحلل، فكل صلاة سبق التحلل عنها، فهي الجمعة، وهذا ردىء لا اتجاه له أصلاً.
1496- ثم لو سبقت واحدة على ما وصفنا السبقَ، ولكن كان السلطان في الجمعة المسبوقة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين:
أحدهما: أن الحكم للجمعة التي فيها الوالي؛ فإن لهذه الصلاة ارتباطاً بالسلاطين، فالرجوع إليهم. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي؛ فإنه لا اعتبار في الجُمع عندنا بالوُلاة من طريق الاستحقاق، ولكن الأَوْلى أن يراجَعوا، والأصح أن الاعتبار في السبق بما قدمناه قبلُ.
ولو وقعت الجمعتان معاً، ولم تتقدم واحدة على الأخرى، لم تنعقد واحدة منهما جمعة، ومن أحاط بما يقع به السبق بنى عليه ما يحصل به الجمع.
ولو عقدت الجمعتان، ولم يُدْرَ أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى، فالذي قطع به الأئمة تنزيل هذا منزلة ما لو وقعتا معاً، فلا جمعة لواحد، والله أعلم.
1497- ومما ينبغي أن يتأمل الآن: أن الجمعتين إذا وقعتا معاً، وكان الوقت باقياً، فمن نتائج هذه الصورة أنا نأمرهم بأن يجتمعوا، ويعقدوا جمعةً، والذي مضى لا حكم له، وإذا أشكل الأمرُ ولم يُدْرَ أوقعت الجمعتان معاً، أم تقدمت إحداهما على الأخرى؟ فلا شك أنا لا نسقط الفرضَ بما مضى، ولكن ما ذكره الأئمة: أنا نجعل هذا كما لو وقعت الجمعتان معاً؛ حتى نأمرَهم بأن يقيموا جمعةً في الوقت. وإذا فعلوا ذلك، سقط الفرض وانقطعت الطَّلِبَة.
1498- وهذا فيه إشكال، فإنا نجوّز أنّ إحدى الجمعتين تقدمت على الأخرى، ولو كان كذلك، فلا يصح عقدُ جمعة أخرى، وإذا فُرضت، فلا تحصل براءة الذمة يقيناً، والذي يقتضيه الاحتياط في ذلك أن يقيموا جمعةً، ثم يصلون من عند آخرهم الظهرَ، فيخرجون عما يلزمهم قطعاً.
هذا حكم القياس في طلب اليقين في الخروج عما يلزم.
وقد ذكرنا فيما تقدم من مسائل الطهارة: أن الذين أقاموا الجمعة لو شكوا، فلم يدروا أوقعت الجمعة في الوقت أو وقع شيء منها وراء الوقت، فالأصل بقاءُ الوقت، واليقين لا يزال بالشك في وقائع مشهورة، وهذه المسألة مستثناة من هذه القاعدة، من جهة أن الأصلَ إقامةُ أربع ركعات، وإقامة ركعتين طارىء معترض، فإذا ترددنا في إجزاء الجمعة، فالأصل إقامةُ أربع ركعات، وما ذكرناه إبداءُ وجه القياس.
والذي ذكره الأئمة أنهم إذا أقاموا الجمعةَ في صورة الإشكال مرة أخرى، كَفَتْهم، ونزل ذلك منزلةَ ما لو وقعت الجمعتان معاً، فهذا إذا لم يُدْرَ كيف وقعتا: معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى.
1499- فأما إذا تقدمت إحداهما على الأخرى يَقيناً، ولكن أشكلت المتقدمة، وما تعينت أصلاً، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أن هذا بمثابة ما لو وقعتا معاً، فيقيمون جمعة أخرى وتكفيهم.
والقول الثاني- أنا نأمرهم بأن يصلوا ظهراً، ولا معنى لإقامة جمعة أخرى، وقد صحت واحدة، وهذا حكاه الربيع بن سليمان، وأظهر القولين في الحكاية الأول.
1500- ولو تقدمت إحدى الجمعتين على الأخرى، وتعينت، فهي صحيحة، وقد فاتت الجمعة في حق الآخرين، فعليهم أن يصلوا ظهراً.
ولو تعينت المتقدمة، ثم التبست بعد التعيين، فالذي صار إليه الأصحاب أنهم لا يقيمون جمعة، إذ قد صحت جمعة في البلدة وتعينت، فلا سبيل إلى إقامة جمعة أخرى. ولكن لما طرأ الإشكال بعد اليقين، أوجبنا على جميعهم أن يصلوا ظهراً.
وذكر شيخي في بعض دروسه أن من أصحابنا من ألحق هذه الصورة عند طريان الإشكال بما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين المتقدمة قط.
وهذا وإن كان يتجه في المعنى، فهو بعيد في الحكاية.
1501- فإن قيل: إذا تقدمت جمعة، فقد صحت في علم الله تعالى جمعة في البلدة، فأمرُ الناس بإقامة الجمعة مرة أخرى، والاكتفاء بها فيه إذا تيقَّنا المتقدمة، ولم تتعين المتقدمة-وهي صورة القولين- مشكل، لا وجه له في القياس، وهو القول المشهور فيما حكيتموه. فما وجهه؟
قلنا: قد ذكرنا صورتين: إحداهما- متفق عليها، وهي إذا شككنا، فلم ندر كيف وقعت الجمعتان: أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما؟ فالذي قطع به الأئمة أنا نأمر القوم بإقامة جمعة، وهي تكفيهم، وقد ذكرتُ فيه من جهة الاحتمال إشكالاً، ولكن لما اقتضى القياس أمرَ الناس بالإقدام على الجمعة ثانيةً فأمرهم معها بالإقدام على الظهر بعدها بعيد.
فأما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين لنا، فهذه صورة القولين، ووجه الحكم ببطلان الجمعة في قول أن هذه الصلاة مخصوصة بشرائط في الكمال-وقد سبقت- ولا يبعد أن يعتبر في الصحة والاعتداد اليقين، حتى إذا قارنها لبس يُقضى ببطلانها، ويجب على الابتداء إقامةُ جمعةٍ، وهذا أيضاً ظاهر إذا لم تتعين قط، فأما إذا تعينت، ثم التبست، فيبعد في هذه الصورة أن ينعطف البطلان، بعد كمال الشرائط.
فهذا نهاية ما يجري في ذلك.
1502- ولو شرعت طائفة في الجمعة، ثم علموا في أثناء الصلاة أنهم مسبوقون بجمعة صحيحة، فهل يبنون الظهر على الصلاة ويتممونها ظهراً؟ فعلى قولين، تكرر ذكرهما في مواضع.
وقد ذكر الأصحاب لما ذكرناه من التباس عقد الجمعتين أمثلة من عقد نكاحين على امرأة واحدة وغيره، ولم أتعرض لتلك الأمثلة؛ فإني لم أر في الجمعتين ما يفتقر بيانُ الحكم فيه إلى تلك الأحكام، وكلّها ستأتي في مواضعها- إن شاء الله.
فرع:
1503- إذا تخلف طائفة من الجمعة بعذرٍ، وقلنا: إنهم يصلون الظهرَ، فهل يُقيمون الجماعة؟ اختلف أئمتنا فيه، فيما نقله العراقيون، فقال قائلون: يقيمونها؛ فإن الجماعة محبوبة في الصلاة المفروضة، وهذه الصلاةُ فرضُهم.
ومن أئمتنا من قال: لا نُؤثر إقامة الجماعة، وهو مذهب أبي حنيفة؛ فإن أدب الشرع في هذا اليوم يقتضي تخصيصَ الجماعة في هذا الوقت، بصلاة الجمعة.
وكان شيخي يقول: الوجه عندي أن لا يشهروا الجماعة، ولو أقاموا في البيوت من غير إظهار وشهر، فلا بأس، وهذا حسن.
فصل:
1504- الإمام يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، وهذا ما نص عليه الشافعي في الجديد، وهو الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقل الصيدلاني عن القديم أن الإمام يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وقال: هذا نقله النعمان بن بشير، والأصح الجديد.
وقد اشتهر من نص الشافعي في الجديد أن الإمام لو نسيَ الجمعة في الأولى تداركها في الثانية، وجمع بينها وبين سورة المنافقين.